فصل: بحث نفيس لابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بحث نفيس لابن القيم:

قال عليه الرحمة:
الشرك بالله تعالى نوعان:
شرك به في أسمائه وصفاته وجعل آلهة أخرى معه، وشرك به في معاملته، وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار، وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره.
وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب، ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه ربوبيته وملكيه، وجعل له ندا، وهذا أعظم الذنوب عند الله، ولا ينفع معه عمل.
وقال بعد ذلك رحمه الله:
وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال:
إن الله عز وجل أرسل رسله، وأنزل كتبه، وخلق السموات والأرض ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له، والدعوة له كما قال: تعالي {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} وقال تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر: أن يعرف بأسمائه وصفاته، ويعبد وحده لا يشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل ومن أعظم القسط التوحيد، بل هو رأس العدل وقوامه. وأن الشرك لظلم عظيم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات.
فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي.
فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدا لهم، لما تركوا القيام بعبوديته، وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا، أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقبل فيها عثرة، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه ندا، وذلك غاية الجهل به، كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه.
فصل:
ووقعت مسألة، وهي: أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى أو أنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلاّ بالوسائط والشفعاء، كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية، وإنما قصد تعظيمه، وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدخلني عليه، فهو المقصود، وهذه وسائل وشفعاء، فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى، ومخلدا في النار، وموجبا لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم؟.
وترتب على هذا سؤال آخر، وهو: أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقرب إليه بالشفعاء والوسائط، فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع، أم ذلك قبيح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشرائع بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب؟ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
فتأمل هذا السؤال، واجمع قلبك جوابه ولا تستهونه، فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهل الجنة وأهل النار.
فتقول وبالله التوفيق والتأييد، ومنه نسأل المعونة والتسديد، فإنه من يهده الله فلا مضلل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع.
الشرك شركان: شرك بتعلق بذات المعبود، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
والشرك الأول نوعان: أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى مخبرًا عنه أنه قال لهامان: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} والشرك والتعطيل متلازمان، فكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرا بالخالق سبحانه وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد، وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها: هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه وهو عين الخلق المشبه، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوما أصلا، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضيت إيجادها، ليسمونها العقول والنفوس، ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا اسما ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذا كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
النوع الثاني شرك من جعل مع الله إلها آخر ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته كشرك النصارى الذي جعلوه ثلاثة، فجعلوا المسيح إلها، وأمه إلها.
ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلي النور، وحوادث الشر إلى الظلمة.
ومن هذا شرك القدرية القائلين بان الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته، ولهذا كانوا من أشباه المجوس.
ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه {إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فهذا جعل نفسه ندا لله، يحيي ويميت بزعمه، كما يحيي الله ويميت، فالزمه إبراهيم عليه السلام أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، وليس هذا انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزاما على طرد الدليل إن كان حقا.
ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم.
ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل عليه واعتني به، ومنهم من يزعم أنه معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه، حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى، فتارة تكثر (الآلهة) الوسائط وتارة تقل.
وأما الشرك في العبادة: فهو أسهل من هذا الشرك، وأخف أمرا، فانه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلاّ الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطى ولا يمنع إلاّ الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، وطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، هذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال: فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن حبان في صحيحه «الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، قالوا: وكيف ننجوا منه يا رسول الله؟ قال: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» فالرياء كله شرك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} أي كما أنه إله واحد، لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلهية يحب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة، وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزله منزلة من لم يعلمه، فيعاقب على ترك الأمر، فان الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتي به شيء غير المأمور به، فلا يصح، ويقبل منه، ويقول الله تعالى: «أنا أغني الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري، فهو للذى أشرك به، وأنا منه برئ».
وهذا الشرك ينقسم إلي مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر، والنوع الأول: ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفور، فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب مخلوقا كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} الآية.
وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والملك، والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوي من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوي العبيد بما لك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلاّ العدم، بالغنى بالذات، القادر بالذات، الذي غناه، وقدرته، وملكه، وجوده، وإحسانه، وعلمه، ورحمته، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟.
فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فعدل المشرك من خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه.
ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ، كالحلف بغيره، كما رواه أحمد وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وصححه الحاكم وابن حبان.
ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: له رجل: «ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده» وهذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة كقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلاّ الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، أو يقول: والله وحياة فلان، أو يقول: نذرا لله ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، أو أرجوا الله وفلانا، ونحو ذلك؟.
فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعل لله ندا فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء- بل لعله أن يكون من أعدائه- ندا لرب العالمين، فالسجود والعبادة، والتوكل، والإنابة، والتقوى، والخشية، والحسب، والتوبة، والنذر، والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعا وتعبدا، والطواف بالبيت، والدعاء، كل ذلك محض حق الله لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل.